يبدو أن سلوك المستثمرين في وول ستريت اليوم لا يختلف كثيرًا عن تجربة العالم الروسي إيفان بافلوف الشهيرة. فكما تعلّمت كلابه أن تربط صوت الجرس بوصول الطعام، بات المستثمرون يربطون أي تراجع في الأسواق بقدوم الإنقاذ من البنوك المركزية. ومع كل دورة مالية جديدة، يتحول هذا الانعكاس النفسي إلى عادة راسخة يصعب كسرها.
الدرس النفسي الذي انتقل إلى الأسواق
في مطلع القرن العشرين، اكتشف بافلوف ما يُعرف اليوم بـ«الاشتراط الكلاسيكي» — أي أن الكائن يمكن أن يتعلّم الاستجابة لمؤثر محايد إذا تمّ اقترانه بشكل متكرر بمكافأة. مع الوقت، يصبح المحفز وحده كافيًا لإحداث نفس الاستجابة حتى دون وجود المكافأة.
في الأسواق المالية، يبدو أن الأمر مشابه. فبعد خمسة عشر عامًا من تدخلات مالية ونقدية غير مسبوقة، أصبح المستثمرون مشروطين نفسيًا على توقع المساعدة في كل أزمة. كلما دقّ «جرس» السوق وتراجعت الأسعار، يتدافع المتعاملون للشراء، مقتنعين بأن البنك المركزي لن يسمح بانهيار كبير.
من تجربة نفسية إلى ظاهرة اقتصادية
هذه الظاهرة ليست مجرد استعارة. فهي تفسّر ما يسميه المحللون اليوم «معضلة المستثمرين». إذ أن المستثمرين أصبحوا يتصرّفون بناءً على خبراتهم السابقة، وليس وفقًا للظروف الراهنة. فبين عامي 2008 و2021، كل هبوط كبير في الأسهم كان يتبعه تحفيز مالي أو نقدي ضخم من مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو الحكومة الأميركية. وبالتالي، تعزّزت القناعة بأن «الشراء عند الهبوط» هو استراتيجية مضمونة النجاح.
لكن ما تغيّر الآن هو البيئة الاقتصادية ذاتها. معدلات الفائدة لم تعد صفرية، والميزانيات العمومية للبنوك المركزية لم تعد تتوسع كما كانت، والسيولة في النظام المالي أصبحت محدودة. ومع ذلك، ما زال المستثمرون يتصرفون كما لو أن الماضي سيتكرر.
الخطر الأخلاقي في الأسواق
هذه الحالة تعيدنا إلى مفهوم معروف في علم الاقتصاد يُسمّى «الخطر الأخلاقي» أو Moral Hazard. ويعني فقدان الدافع للحذر عندما يشعر الفرد بأنه محمي من العواقب. فكما لا يخاف المؤمن على سيارته من الحوادث لأنه يعلم أن التأمين سيعوّضه، أصبح المستثمر لا يخشى المجازفة لأنه يتوقع أن الفيدرالي سيتدخل عند أول أزمة.
لقد خلقت هذه السياسة بيئة من الاعتماد المفرط على صناع القرار، حيث أصبح السوق أشبه بمختبر نفسي ضخم. ومع كل تدخل نقدي جديد، يترسّخ السلوك أكثر، ليصبح ردة فعل تلقائية وليست قرارًا استثماريًا عقلانيًا.
كيف تطورت «الاستجابة الشرطية» في وول ستريت
منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، استخدم الفيدرالي أدوات غير تقليدية مثل خفض الفائدة إلى الصفر والتيسير الكمي، ما أدى إلى تضخم أسعار الأصول بشكل غير مسبوق. ثم جاءت جائحة كورونا عام 2020 لتؤكد هذا النمط: كل أزمة كبيرة تقابلها موجة جديدة من السيولة المجانية.
خلال هذه الفترة، تعلم المستثمرون أن الفيدرالي لن يسمح بانهيار السوق. وبالتالي، تحوّل الخوف من الهبوط إلى حافز للشراء. ومع مرور الوقت، أصبح هذا السلوك غريزيًا — أشبه بـ«رنين الجرس» الذي يثير الشهية دون وجود الطعام.
لكن منذ عام 2022، بدأت المعطيات تنقلب. الفيدرالي رفع الفائدة لمواجهة التضخم، وتراجع حجم السيولة في النظام المالي، وبدأت أسواق الأسهم تظهر مؤشرات ضعف في العمق رغم بقاء المؤشرات الرئيسية قرب قممها.
انفصال السوق عن الواقع الاقتصادي
تشير البيانات إلى أن السوق الأميركي حقق منذ عام 2007 ارتفاعًا يقارب 370%، في حين لم يتجاوز نمو الناتج المحلي الحقيقي سوى 40%. أما نمو الإيرادات الحقيقية للشركات، فهو أقل من ثلث ارتفاع الأسعار السوقية للأسهم.
هذا يعني أن الأسعار لم تعد تعكس الأداء الاقتصادي، بل تعكس السيولة المتدفقة والسيكولوجيا الجماعية للمستثمرين. ومع تراجع السيولة، يظهر الخطر: هل يمكن للسوق أن يواصل الارتفاع دون «الطعام» الذي تعوّد عليه؟
الأرواح الحيوانية… الوقود النفسي للأسواق
يعود مصطلح «الأرواح الحيوانية» إلى الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، الذي استخدمه عام 1936 لوصف المشاعر الإنسانية التي تحرك الثقة والجرأة في الاقتصاد. لاحقًا، تبنّى الاحتياطي الفيدرالي هذا المفهوم عمليًا. ففي 2010، قال رئيسه آنذاك بن برنانكي إن رفع أسعار الأصول سيزيد ثقة المستهلكين ويحفّز النمو. وبالفعل، نجح في دفع الأسهم إلى موجة صعود ضخمة.
لكن الجانب المظلم لهذا النجاح كان أن الثروة الناتجة تركزت في يد المؤسسات والأثرياء، بينما بقيت الأغلبية تعاني ركودًا في الدخل الحقيقي. ومع مرور الوقت، أصبحت الأسواق تعتمد على التفاؤل أكثر من الأساسيات الاقتصادية.
لماذا تتفاقم المعضلة الآن
ما يجعل معضلة المستثمرين خطيرة اليوم هو تغيّر القواعد الثلاث التي كانت تحكم الأسواق:
- التقييمات مرتفعة للغاية: مؤشرات السعر إلى الأرباح تتجاوز مستوياتها التاريخية، ما يجعل أي تصحيح صغير مؤلمًا.
- التحفيز أقل فعالية: الفيدرالي قيّد أدواته، والبنوك المركزية لا تملك مساحة كبيرة للتيسير من جديد.
- النمو العالمي بطيء والمخاطر الجيوسياسية مرتفعة: من الحروب التجارية إلى التوترات الإقليمية، كل ذلك يضغط على شهية المخاطرة.
ورغم ذلك، لا يزال المستثمرون الأفراد يندفعون نحو الأسواق بدافع الخوف من تفويت الفرصة. في المقابل، تكشف المؤشرات الفنية عن ضعف في الاتساع؛ فالمكاسب تتركز في أسهم التكنولوجيا الكبرى، بينما تتراجع الشركات الصغيرة والمتوسطة.
إشارات مقلقة من الأسواق والسلع
المقارنة بين المؤشر الموزون بالقيمة السوقية (S&P 500) والموزون بالتساوي (RSP) تظهر فجوة كبيرة، ما يعني أن جزءًا ضئيلاً من الأسهم هو من يقود الارتفاع.
كما أن أسعار السلع — وخصوصًا النفط — أرسلت إشارات سلبية، إذ يشير تراجعها إلى تباطؤ النشاط الصناعي واحتمال انخفاض الأرباح المستقبلية.
هذه المؤشرات تجعل صورة «الصحة الاقتصادية» التي تعكسها المؤشرات الكبرى مضللة، وتدفع المحللين إلى التحذير من أن الأسواق ربما وصلت إلى مرحلة «الارتخاء النفسي» التي تسبق التصحيح.
من رد الفعل إلى الانضباط
يُجمع عدد من الاقتصاديين أن الحل يكمن في تغيير سلوك المستثمرين أنفسهم. فبدلًا من التصرف بشكل انعكاسي عند كل هبوط، يجب العودة إلى الانضباط الاستثماري القائم على الأساسيات.
عندما تنخفض الأسعار، على المستثمر أن يسأل نفسه:
هل هذا الانخفاض فرصة استثمارية حقيقية أم مجرد فخ؟
هل هناك مبررات اقتصادية تدعم الشراء؟
هل التقييمات واقعية؟
الإجابة الصادقة على هذه الأسئلة قد تمنع الكثير من الخسائر.
كما يُنصح المستثمرون بوضع خطط مسبقة تشمل حدودًا للتوزيع ووقف الخسارة ومراجعة المخاطر بانتظام، بدلًا من الاعتماد على «الحدس الجماعي» للسوق.
التركيز على الأساسيات
في بيئة الأسواق الحالية، العودة إلى الأساسيات لم تعد ترفًا بل ضرورة. فالتاريخ أثبت أن تجاهل الأرباح، المديونية، والنمو الحقيقي يؤدي دائمًا إلى نتائج كارثية.
ينبغي للمستثمر أن يقيم الشركات بناءً على قدرتها على تحقيق نمو مستدام، لا على ضجيج وسائل التواصل الاجتماعي أو إشارات المضاربة السريعة.
الانضباط يعني أيضًا تقبّل عدم اليقين. فالسوق ليس آلة يمكن التنبؤ بها، ولا توجد استراتيجية رابحة دائمًا. حين يعترف المستثمر بأن التغير هو القاعدة وليس الاستثناء، يكون قد قطع نصف الطريق نحو إدارة المخاطر بذكاء.
متى يفشل “الشراء عند الانخفاض”؟
من المؤكد أن استراتيجية «الشراء عند الانخفاض» نجحت لسنوات، لكن نجاحها كان نتيجة ظروف محددة: سيولة وفيرة، فائدة منخفضة، ودعم حكومي واسع. أما اليوم، فهذه الشروط لم تعد قائمة.
في لحظةٍ ما، سيتحوّل «الانخفاض» من فرصة إلى بداية موجة هبوط حقيقية. والمشكلة أن الكثير من المستثمرين لا يدركون ذلك لأنهم ما زالوا أسرى «الاستجابة الشرطية» التي غرستها سنوات التحفيز.
الأسواق قد لا تنهار غدًا، لكنها بالتأكيد أكثر هشاشة مما تبدو عليه. وكلما طالت فترة الهدوء، زادت احتمالات المفاجأة.
كيف يمكن للمستثمرين التكيّف؟
- اعترف بأن البيئة تغيرت: ما نجح في العقد الماضي قد لا ينجح اليوم.
- وازن بين الأصول: لا تضع كل أموالك في الأسهم أو في فئة واحدة.
- راقب السيولة: فالتقلبات تزداد كلما شحّت الأموال.
- احترم المخاطر: الربح السريع مغرٍ، لكنه لا يعوّض خسارة رأس المال.
الخلاصة: تدريب نفسي يجب كسره
لقد تمّ «تدريب» المستثمرين لسنوات على توقع الإنقاذ مع كل أزمة. لكن الأسواق، مثل الكائنات في تجارب بافلوف، يمكن أن تُصدم حين يتوقف الجرس عن الرنين ولا يأتي الطعام.
الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة مختلفة؛ أدوات السياسة النقدية أصبحت محدودة، والمحفزات فقدت تأثيرها السابق، والمخاطر تتزايد.
معضلة المستثمرين اليوم ليست في الأرقام أو المؤشرات فقط، بل في السلوك ذاته: التعلّق بالماضي وتجاهل الحاضر.
حين يدرك المستثمرون أن «الانعكاس الشرطي» لا يحميهم من الواقع، فقط عندها يمكن أن تتحول الأسواق من التجربة النفسية إلى سلوك اقتصادي ناضج.
Michael Lebowitz is a financial markets analyst and digital finance writer specializing in cryptocurrencies, blockchain ecosystems, prediction markets, and emerging fintech platforms. He began his career as a forex and equities trader, developing a deep understanding of market dynamics, risk cycles, and capital flows across traditional financial markets.
In 2013, Michael transitioned his focus to cryptocurrencies, recognizing early the structural similarities—and critical differences—between legacy markets and blockchain-based financial systems. Since then, his work has concentrated on crypto-native market behavior, including memecoin cycles, on-chain activity, liquidity mechanics, and the role of prediction markets in pricing political, economic, and technological outcomes.
Alongside digital assets, Michael continues to follow developments in online trading and financial technology, particularly where traditional market infrastructure intersects with decentralized systems. His analysis emphasizes incentive design, trader psychology, and market structure rather than short-term price action, helping readers better understand how speculative narratives form, evolve, and unwind in fast-moving crypto markets.
